(وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)

قال الشنقيطي رحمه الله في اضواء البيان



قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا 

قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر ولا يشرك " بالياء المثناة التحتية ، وضم الكاف على الخبر ، ولا نافية والمعنى : ولا يشرك الله جل وعلا أحدا في حكمه ، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة ، فالحلال ما أحله تعالى ، والحرام ما حرمه ، والدين ما شرعه ، والقضاء ما قضاه ،

 وقرأه ابن عامر من السبعة ; " ولا تشرك " بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي ، أي : لا تشرك يا نبي الله ، أو لا تشرك أيها المخاطب أحدا في حكم الله جل وعلا ، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم ،

 وحكمه جل وعلا المذكور في قوله : ولا يشرك في حكمه أحدا شامل لكل ما يقضيه جل وعلا ، ويدخل في ذلك التشريع دخولا أوليا . 

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله تعالى : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه [ 12 \ 40 ] ، وقولـه تعالى : إن الحكم إلا لله عليه توكلت الآية [ 12 \ 67 ] ، وقولـه تعالى : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ، وقولـه تعالى : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] ، وقولـه تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] ، وقولـه تعالى : له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 70 ] ، وقولـه : أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [ 5 \ 50 ] ، وقولـه تعالى : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا [ 6 \ 114 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . 

[ ص: 259 ] ويفهم من هذه الآيات ، كقوله : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] ، أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله ،

 وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] ، فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم ، وهذا الإشراك في الطاعة ، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم [ 36 \ 60 ، 61 ] ، وقولـه تعالى عن نبيه إبراهيم ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [ 19 \ 44 ] ، وقولـه تعالى : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، أي : ما يعبدون إلا شيطانا ، أي : وذلك باتباع تشريعه ، ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء ، في قوله تعالى : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم الآية [ 6 \ 137 ] ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى :اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ 9 \ 31 ] ، فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك ، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أربابا . 

ومن أصرح الأدلة في هذا : أن الله جل وعلا في " سورة النساء " بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون ، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب ; وذلك في قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] . 

وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور : أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم . 

اعلم ، أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض ، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك 

وإيضاح ذلك أن النظام قسمان : إداري ، وشرعي ،

 أما الإداري : الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع ، فهذا لا مانع منه ، ولا مخالف فيه من الصحابة ، فمن بعدهم ، وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط ، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم ، وكاشترائه - أعني عمر رضي الله عنه - دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجنا في مكة المكرمة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجنا هو ولا أبو بكر ، فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به ، كتنظيم شئون الموظفين ، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع ، فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به ، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة . 

وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض ، كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف ، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث . وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم ، وأن الطلاق ظلم للمرأة ، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ، ونحو ذلك . 

فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السماوات والأرض ، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علوا كبيرا أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] ، قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [ 16 \ 116 ] ، وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الآية [ 17 \ 9 ] . 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرد على السيف اليماني في نحر الاصفهاني صاحب الاغاني

الفرق بين المبدا والرأي (( نقاش ))

الشاعر حامد زيد و (( حاتم الطائي ))